سورة فاطر - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)}
{والذى أَوْحَيْنَا عِلْمٌ مّنَ الكتاب} وهو القرآن، و{مِنْ} للتبيين إذ القرآن أخص من الذي أوحينا مفهومًا وإن اتحدا ذاتًا أو جنس الكتاب ومن للتبعيض إذ المراد من {الذى أَوْحَيْنَا} هو القرآن وهو بعض جنس الكتاب، وقيل هو اللوح ومن للابتداء {هُوَ الحق} إذا كان المراد الحصر فهو من قصر المسند إليه على المسند لا العكس لعدم استقامة المعنى إلا أن يقصد المبالغة قاله الخفاجي والمتبادر الشائع في أمثاله قصر المسند على المسند إليه وهو هاهنا إن لم تقصد المبالغة قصر إضافي بالنسبة إلى ما يفتريه أهل الكتاب وينسبونه إلى الله تعالى.
{مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي لما تقدمه من الكتب السماوية ونصب {مُصَدّقًا} على الحالية والعامل فيه مقدر يفهم من مضمون الجملة قبله أي أحققه مصدقًا وهو حال مؤكدة لأن حقيته تستلزم موافقته الكتب الإلهية المتقدمة عليه بالزمان في العقائد وأصول الأحكام، واللام للتقوية {إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} محيط ببواطن أمورهم وظواهرها فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الحق المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب، وتقديم {الخبير} للتنبيه على أن العمدة هي الأمور الروحانية، وإلى ذلك أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن الله لا ينظر إلى أعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم».


{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)}
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} أي القرآن كما عليه الجمهور، والعطف قيل على {الذى أَوْحَيْنَا} [فاطر: 31] وقيل على {أَوْحَيْنَا} بإقامة الظاهر مقام الضمير العائد على الموصول، واستظهر ذلك بالقرب وتوافق الجملتين أي ثم أعطيناه من غير كد وتعب في طلبه {الذين عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا} وهم كما قال ابن عباس. وغيره أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطًا ليكونوا شهداء على الناس وخصهم بالانتماء إلى أكرم رسله وأفضلهم عليهم الصلاة والسلام، و{ثُمَّ} للتراخي الرتبي فإن إيحاء الكتاب إليه صلى الله عليه وسلم أشرف من الإيراث المذكور كأنه كالعلة له وبه تحققت نبوته عليه الصلاة والسلام التي هي منبع كل خير وليست للتراخي الزماني إذ زمان إيحائه إليه عليه الصلاة والسلام هو زمان إيراثه، وإعطائه أمته عنى تخصيصه بهم وجعله كتابهم الذي إليه يرجعون وبالعمل بما فيه ينتفعون، وإذا أريد بإيراثه إياهم إيراثه منه صلى الله عليه وسلم وجعلهم منتفعين به فاهمين ما فيه بالذات كالعلماء أو بالواسطة كغيرهم بعده عليه الصلاة والسلام فهي للتراخي الزماني، والتعبير عن ذلك بالماضي لتحققه، وجوز أن يكون معنى {أَوْرَثْنَا الكتاب} حكمنا بإيراثه وقدرناه على أنه مجاز من إطلاق السبب على المسبب فتكون ثم للتراخي الرتبي وإلا فزمان الحكم سابق على زمان الإيحاء.
ووجه التعبير بالماضي عليه ظاهر. وفي شرح الرضي أن ثم قد تجىء في عطف الجمل خاصة لاستبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها وعدم مناسبته له كما في قوله تعالى: {استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} [هود: 3] فإن بين توبة العباد وهي انقطاع العبد إليه تعالى بالكلية وبين طلب المغفرة بونا بعيدًا وهذا المعنى فرع التراخي ومجازه اه.
وابن الشيخ جعل ما هنا كما في هذه الآية، وجوز أن يكون {ثُمَّ أَوْرَثْنَا} إلخ متصلًا بما سبق من قوله تعالى: {إِنَّا أرسلناك بالحق بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] والمراد ثم أورثنا الكتاب من الأمم السالفة وأعطيناه بعدهم الذين اصطفيناهم من الأمة المحمدية، والكتاب القرآن كما قيل {وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاولين} [الشعراء: 196] وقيل لا يحتاج إلى اعتبار ذلك ويجعل المعنى ثم أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناه هذه الأمة، ووجه النظم أنه تعالى قدم إرساله في كل أمة رسولًا وعقبه بما ينبىء أن تلك الأمم تفرقت حزبين حزب كذبوا الرسل وما أنزل معهم وهم المشار إليهم بقوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} [فاطر: 25] وحزب صدقوهم وتلوا كتاب الله تعالى وعملوا قتضاه وهم المشار إليهم بقوله سبحانه: {إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله وَأَقَامُواْ الصلاة} [فاطر: 29] إلخ وبعد أن أثنى سبحانه على التالين لكتبه العاملين بشرائعه من بين المكذبين بها من سائر الأمم جاء بما يختص برسوله صلى الله عليه وسلم من قوله سبحانه: {والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} [فاطر: 31] إلخ استطرادًا معترضًا ثم أخبر سبحانه بإيراثه هذا الكتاب الكريم هذه الأمة بعد إعطاء تلك الأمم الزبر والكتاب المنير، وعلى هذا يكون المعنى في {أَوْرَثْنَا} على ظاهره، وثم للتراخي في الأخبار أو للتراخي في الرتبة إيذانًا بفضل هذا الكتاب على سائر الكتب وفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وفي هذا الوجه حمل الكتاب في قوله سبحانه: {إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله} [فاطر: 29] على الجنس وجعل الآية ثناء على الأمم المصدقين بعد اقتصاص حال المكذبين منهم، فإن دفع ما فيه فهو من الحسن كان. وجوز أن يكون عذفًا على {إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله} وإذا كان إيراث الكتاب سابقًا على تلاوته فالمعنى على ظاهره وثم للتفاوت التربي أو للتراخي في الأخبار {والذى أَوْحَيْنَا} إلخ اعتراض لبيان كيفية الإيراث لأنه إذا صدقها طابقته لها في العقائد والأصول كان كأنه هي وكأنه انتقل إليهم ممن سلف، وهو كما ترى، وجوز على هذا وما قبله أن يراد بالكتاب الجنس؛ ولا يخفى أن إرادة القرآن هو الظاهر، وقيل المراد بالمصطفين علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم ممن يسير بسيرتهم وإيراثهم القرآن جعلهم فاهمين معناه واقفين على حقائقه ودقائقه أمناء على أسراره.
وروى الإمامية عن الصادق والباقر رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا: هي لنا خاصة وإيانا عني أرادا أن أهل البيت أو الأئمة منهم هم المصطفون الذين أورثوا الكتاب، واختار هذا الطبرسي الإمامي قال في تفسيره مجمع البيان: وهذا أقرب الأقوال لأنهم أحق الناس بوصف الاصطفاء والاجتباء وإيراث علم الأنبياء عليهم السلام.
ورا يستأنس له بقوله عليه الصلاة والسلام: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض» وحملهم على علماء الأمة أولى من هذا التخصيص ويدخل فيهم علماء أهل البيت دخولًا أوليًا ففي بيتهم نزل الكتاب ولن يفترقا حتى يردا الحوض يوم الحساب، وإذا كانت الإضافة في {عِبَادِنَا} للتشريف واختص العباد ؤمني هذه الأمة وكانت من للتبعيض كأن حمل المصطفين على العلماء كالمتعين، وعن الجبائي أنهم الأنبياء عليهم السلام اختارهم الله تعالى وحباهم برسالته وكتبه، وعليه يكون تعريف الكتاب للجنس والعطف على قوله تعالى: {والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب هُوَ الحق} [فاطر: 31] وثم للتراخي في الأخبار، أخبر سبحانه أولًا عما أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم وهو متضمن للاخبار بإيتائه عليه الصلاة والسلام الكتاب على أكمل وجه ثم أخبر سبحانه بتوريث إخوانه الأنبياء عليهم السلام وإيتائهم الكتب، ومما يرد عليه أن إيتاء الأنبياء عليهم السلام الكتب قد علم قبل من قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} [فاطر: 25].
وعن أبي مسلم أنهم المصطفون المذكورون في قوله تعالى: {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين} [آل عمران: 33] وهو دون ما قبله، وأيًا ما كان فالموصول مفعول أول لأورثنا، و{الكتاب} مفعول ثان له قدم لشرفه والاعتناء به وعدم اللبس، ومن للبيان أو للتبعيض {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} الفاء للتفصيل لا للتعليل كما قيل؛ وضمير الجمع على ما سمعت أولًا في تفسير الموصول للموصول، والظالم لنفسه من قصر في العمل بالكتاب وأسرف على نفسه وهو صادق على من ظلم غيره لأنه بذلك ظالم لنفسه والمشهور مقابلته بالظلم لغيره، واللام للتقوية.
{وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} يتردد بين العمل به ومخالفته فيعمل تارة ويخالف أخرى، وأصل معنى الاقتصاد التوسط في الأمر {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ} متقدم إلى ثواب الله تعالى وجنته {بالخيرات} أي بسبب الخيرات أي الأعمال الصالحة، وقيل: سابق على الظالم لنفسه والمقتصد في الدرجات بسبب الخيرات، وقيل: أي محرز الفضل بسببها {بِإِذُنِ الله} أي بتيسيره تعالى وتوفيقه عز وجل؛ وفيه تنبيه على عزة منال هذه الرتبة وصعوبة مأخذها، وفسر ن غلبت طاعته معاصيه وكثر عمله بكتاب الله تعالى، وما ذكر في تفسير الثلاثة مما يشير إليه كلام الحسن فقد روى عنه أنه قال: الظالم من خفت حسناته والمقتصد من استوت والسابق من رجحت، ووراء ذلك أقوال كثيرة فقال معاذ: الظالم لنفسه الذي مات على كبيرة لم يتب منها والمقتصد من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة لم يتب منها والسابق من مات تائبًا من كبيرة أو صغيرة أو لم يصب ذلك، وقيل الظالم لنفسه العاصي المسرف والمقتصد متقي الكبائر والسابق المتقي على الإطلاق، وقيل الأول المقصر في العمل والثاني العامل بالكتاب في أغلب الأوقات ولم يخل عن تخليط والثالث السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
وقيل الأولان كما ذكر والثالث المداوم على إقامة مواجب الكتاب علمًا وعملًا وتعليمًا، وقيل: الأول من أسلم بعد الفتح والثاني من أسلم قبله والثالث من أسلم قبل الهجرة، وقيل: هم من لا يبالي من أين ينال ومن قوته من الحلال ومن يكتفي من الدنيا بالبلاغ، وقيل: من همه الدنيا ومن همه العقبى ومن همه المولى، وقيل: طالب النجاة وطالب الدرجات وطالب مناجاة، وقيل: تارك الزلة وتارك الغفلة وتاركة العلاقة، وقيل: من شغله معاشه عن معاده ومن شغله بهما ومن شغله معاده عن معاشه وقيل: من يأتي بالفرائض خوفًا من النار ومن يأتي بها خوفًا منها ورضًا واحتسابًا ومن يأتي بها رضًا واحتسابًا فقط، وقيل: الغافل عن الوقت والجماعة والمحافظ على الوقت دون الجماعة والمحافظ عليهما، وقيل: من غلبت شهوته عقله ومن تساويا ومن غلب عقله شهوته، وقيل: من لا ينهى عن المنكر ويأتيه ومن ينهى عن المنكر ويأتيه ومن يأمر بالمعروف ويأتيه، وقيل: دو الجور وذو العدل وذو الفضل، وقيل: ساكن البادية والحاضرة والمجاهد، وقيل: من كان ظاهره خيرًا من باطنه ومن استوى باطنه وظاهره ومن باطنه خير من ظاهره.
وقيل: التالي للقرآن غير العالم به ولا العامل وجبه والتالي العالم غير العامل والتالي العالم العامل، وقيل: الجاهل والمتعلم والعالم، وقيل: من خالف الأوامر وارتكب المناهي ومن اجتهد في أداء التكاليف وإن لم يوفق لذلك ومن لم يخالف تكاليف الله تعالى.
وروى بعض الإمامية عن ميسر بن عبد العزيز عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه الظالم لنفسه منا من لا يعرف حق الإمام والمقتصد العارف بحق الإمام والسابق هو الإمام، وعن زياد بن المنذر عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه الظالم لنفسه منا من عمل صالحًا وآخر سيئًا والمقتصد المتعبد المجتهد والسابق بالخيرات علي. والحسن. والحسين رضي الله تعالى عنهم. ومن قتل من آل محمد شهيدًا، وقيل: هم الموحد بلسانه الذي تخالف جوارحه والموحد الذي يمنع جوارحه بالتكليف والموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد، وقيل: من يدخل الجنة بالشفاعة ومن يدخلها بفضل الله تعالى ومن يدخلها بغير حساب، وقيل: من أوتي كتابه من وراء ظهره ومن أوتي كتابه بشماله ومن أوتي كتابه بيمينه، وقيل: الكافر مطلقًا والفاسق والمؤمن التقي، وفي معناه ما جاء في رواية عن ابن عباس. وقتادة. وعكرمة الظالم لنفسه أصحاب المشأمة والمقتصد أصحاب الميمنة والسابق بالخيرات السابقون المقربون، والظاهر أن هؤلاء ومن قال نحو قولهم يجعلون ضمير {مِنْهُمْ} للعباد لا للموصول ولا شك أن منهم الكافر وغيره وكون العباد المضاف إلى الله تعالى مخصوصًا بالمؤمنين ليس طرد وإنما يكون كذلك إذا قصد بالإضافة التشريف، والقول برجوع الضمير للموصول والتزام كون الاصطفاء بحسب الفطرة تعسف كما لا يخفى، وقيل: في تفسير الثلاثة غير ما ذكر، وذكر في التحرير ثلاثة وأربعين قولًا في ذلك، ومن تتبع التفاسير وجدها أكثر من ذلك لكن لا يجد في أكثرها كثير تفاوت، والذي يعضده معظم الروايات والآثار أن الأصناف الثلاثة من أجل الجنة فلا ينبغي أن يلتفت إلى تفسير الظالم بالكافر إلا بتأويل كافر النعمة وإرادة العاصي منه.
أخرج الإمام أحمد. والطيالسي. وعبد بن حميد. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وابن مردويه. والبيهقي. والترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب إلى الخَيْرَاتِ} هؤلاء نزلة واحدة وكلهم في الجنة، وقوله عليه الصلاة والسلام وكلهم إلخ عطف تفسيري.
وأخرج الطبراني. وابن مردويه في البعث عن أسامة بن زيد أنه قال في الآية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلهم من هذه الأمة وكلهم في الجنة» وأخرج ابن النجار عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له» وأخرج العقيلي. وابن مردويه. والبيهقي عن عمر بن الخطاب مرفوعًا نحوه.
وأخرج الإمام أحمد. وعبد بن حميد. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والطبراني. والحاكم. وابن مردويه. والبيهقي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} فأما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة بغير حساب وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حسابًا يسيرًا وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين يتلقاهم الله تعالى برحمته فهم الذين يقولون {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} [فاطر: 34] الآية» قال البيهقي: إذا كثرت الروايات في حديث ظهر أن للحديث أصلًا، والاخبار في هذا الباب كثيرة وفيما ذكر كفاية، وقدم الظالم لنفسه لكثرة الظالمين لأنفسهم وعقب بالمقتصد لقلة المقتصدين بالنسبة إليهم وأخر السابق لأن السابقين أهل من القليل قاله الزمخشري، وحكى الطبرسي أن هذا الترتيب على مقامات الناس فإن أحوال العباد ثلاث معصية ثم توبة ثم قربة فإذا عصى العبد فهو ظالم فإذا تاب فهو مقتصد فإذا صحت توبته وكثرت مجاهدته فهو سابق، وقيل: قدم الظالم لئلا ييأس من رحمة الله تعالى وأخر السابق لئلا يعجب بعمله فتعين توسيط المقتصد، وقال قطب الدين: النكتة في تقديم الظالم أنه أقرب الثلاثة إلى بداية حال العبد قبل اصطفائه بإيراث الكتاب فإذا باشره الاصطفاء فمن العباد من يتأثر قليلًا وهو الظالم لنفسه ومنهم من يتأثر تأثرًا وسطًا وهو المقتصد ومنهم من يتأثر تأثرًا تامًا وهو السابق، وقريب منه ما قيل: إن الاصطفاء مشكك تتفاوت مراتبه وأولها ما يكون للمؤمن الظالم لنفسه وفوقه ما يكون للمقتصد وفوق الفوق ما يكون للسابق بالخيرات فجاء الترتيب كالترقي في المراتب، وقيل: أخل السابق لتعدد ما يتعلق به فلو قدم أو وسط لبعد في الجملة ما بين الأقسام المتعاطفة ولما كان الاقتصاد كالنسبة بين الظلم والسبق اقتضى ذلك تقديم الظالم وتأخير المقتصد ليكون المقتصد بين الظالم والسابق لفظًا كما هو بينهما معنى، وقد يقال: رتب هذه الثلاثة هذا الترتيب ليوافق حالهم في الذكر بالنسبة إلى ما وعدوا به من الجنات في قوله سبحانه: {جنات عَدْنٍ} الآية حالهم في الحشر عند تحقق الوعد فأخر السابق الداخل في الجنان أولًا ليتصل ذكره بذكر الجنات الموعود بها وذكر قبله المقتصد وجعل السابق فاصلًا بينه وبين الجنات لأنه إنما يدخلها بعده فيكون فاصلًا بينه وبينها في الدخول وذكر قبلهما الظالم لنفسه لأنه إنما يدخلها ويتصل بها بعد دخولهما فتأخير السابق في المعنى تقديم وتقديم الظالم في المعنى تأخير، ويحتمل ذلك أوجهًا أخرى تظهر بالتأمل فتأمل، وقرأ أبو عمران الجوني. وعمر بن أبي شجاع. ويعقوب في رواية. والقزاز عن أبي عمرو {سَابِقُ} بصيغة المبالغة {ذلك} أي ما تقدم من الإيراث والاصطفاء {هُوَ الفضل الكبير} من الله عز وجل لا دخل للكسب فيه.


{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)}
{جنات عَدْنٍ} مبتدأ خبره قوله تعالى: {يَدْخُلُونَهَا} ويؤيده قراءة الجحدري وهرون عن عاصم {جنات} بالنصب على الاشتغال أي يدخلون جنات عدن يدخلونها واحتمال جره بدلًا من {الخيرات} بعيد وفيه الفصل بين البدل والمبدل منه بأجنبي فلا يلتفت إليه.
وضمير الجمع للذين اصطفينا أو للثلاثة. وقال الزمخشري: ذلك إشارة إلى السبق بالخيرات {وجنات عَدْنٍ} بدل من الفضل الذي هو السبق ولما كان السبق بالخيرات سببًا لنيل الثواب جعل نفس الثواب إقامة للسبب مقام المسبب ثم أبدل منه وضمير الجمع للسابق لأن القصد إلى الجنس، فخص الوعد بالقسم الأخير مراعاة لمذهب الاعتزال وهو على ما سمعت للأقسام الثلاثة وذلك هو الأظهر في النظم الجليل ليطابقه قوله تعالى بعد: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} [فاطر: 36] وليناسب حديث التعظيم والاختصاص المدمج في قوله سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} [فاطر: 32] وإلا فأي تعظيم في ذلك بعد أن لز أكثر المصطفين في قرن الكافرين وليناسب ذكر الغفور بعد حال الظالم والمقصد والشكور حال السابق ولتعسف ما ذكره من الإعراب وبعده عن الذوق وكيف لا يكون الأظهر وقد فسره كذلك أفضل الرسل ومن أنزل عليه هذا الكتاب المبين على ما مر آنفًا وإليه ذهب الكثير من أصحابه الفخام ونجوم الهداية بين الأنامرضي الله تعالى عنهم وعد منهم في الحبر عمر. وعثمان. وابن مسعود. وأبا الدرداء. وأبا سعيد. وعائشة رضي الله تعالى عنهم، وقد أخرج سعيد بن منصور. والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب أنه قال بعد أن قرأ الآية: أشهد على الله تعالى أنه يدخلهم الجنة جميعًا، وأخرج غير واحد عن كعب أنه قرأ الآية إلى {لُغُوبٌ} فقال دخلوها ورب الكعبة، وفي كلهم في الجنة ألا ترى على أثره {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جهنم} [فاطر: 36] نعم أن أريد بالظالم لنفسه الكافر يتعذر رجوع الضمير إلى ما ذكر ويتعين رجوعه إلى السابق وإليه وإلى المقتصد لأن المراد بهما الجنس لكن لا ينبغي أن يراد بعد هاتيك الأخبار، وقرأ زر بن حبيش. والزهري {جَنَّةُ عَدْنٍ} بالإفراد والرفع وقرأ أبو عمرو {يَدْخُلُونَهَا} بالناء للمفعول ورويت عن ابن كثير، وقوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} خبر ثان لجنات أو حال مقدرة، وقيل: إنها لقرب الوقوع بعد الدخول تعد مقارنة وقرئ {يُحَلَّوْنَ} بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف اللام من حليت المرأة فهي حالية إذ لبست الحلى ويقال جيد حال إذا كان عليه الحلي {مِنْ أَسَاوِرَ} جمع سوار على ما في «الإرشاد»، وفي القاموس السوار ككتاب وغراب القلب كالأسوار بالضم جمعه إسورة وأساور وأساورة وسور وسؤور اه، وإطلاق الجمع على جمع الجمع كثير فلا مخالفة، وسوار المرأة معرب كما قال الراغب وأصله دستواره، ومن للتبعيض أي يحلون بعض أساور كأنه بعض له امتياز وتفوق على سائر الإبعاض، وجوز أن تكون للبيان لما أن ذكر التحلية مما ينبىء عن الحلي المبهم، وقيل: زائدة بناء على ما يرى الأخفش من جواز زيادتها في الإثبات، وقيل: نعت لمفعول محذوف ليحلون وأنه عنى يلبسون {وَمِنْ} في قوله تعالى: {مّن ذَهَبٍ} بيانية {وَلُؤْلُؤًا} عطف على محل {مِنْ أَسَاوِرَ} أي ويحلون فيها لؤلؤًا.
أخرج الترمذي. والحاكم. وصححه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا الآية فقال: إن عليهم التيجان إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب، وقيل: عطف على المفعول المحذوف أو منصوب بفعل مضمر يدل عليه {يُحَلَّوْنَ} أي ويؤتون لؤلؤًا. وقرأ جمع من السبعة {ولؤلؤ} بالجر عطفًا على {فَإِذَا ذَهَبَ} أي يحلون فيها بعض أساور من مجموع ذهب ولؤلؤ بأن تنظم حبات ذهب مع حبات لؤلؤ ويتخذ من ذلك سوار كما هو معهود اليوم في بلادنا أو بأن يرصع الذهب باللؤلؤ كما يرضع ببعض الأحجار، وقيل: أي من ذهب في صفاء اللؤلؤ، وفيه ما فيه من الكدر.
ولعل من يقول بأنه لا اشتراك بين ذهب الدنيا ولؤلؤها وذهب الآخرة ولؤلؤها إلا بالاسم لا يلتزم النظم ولا الترصيع كما لا يخفى، وقرء {لُؤْلُؤًا} بتخفيف الهمزة الأولى {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أي إبريسم محض كما في مجمع البيان، وقال الراغب: ما رق من الثياب. وتغيير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريرًا قيل للإيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غني عن البيان إذ لا يمكن عراؤهم عنه وإنما المحتاج إلى البيان إن لباسهم ماذا بخلاف الأساور واللؤلؤ فإنها ليست من اللوازم الضرورية ولذا لا يلزم العدل بين الزوجات فيها فجعل بيان تحليتهم مقصورًا بالذات، ولعل هذا هو الباعث على تقديم التحلية على بيان حال اللباس، وقيل: إن ذلك للدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة مع المحافظة على هيئة الفواصل وليس بذاك.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14